فصل: قال البقاعي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (220):

قوله تعالى: {فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان العفو غير مقصور على المال بل يعم القوى البدنية والعقلية وكان النفع لليتيم من أجل ما يرشد إليه التفكر في أمور الآخرة وكان الجهاد من أسباب القتل الموجب لليتم وكانوا يلون يتاماهم فنزل التحريج الشديد في أكل أموالهم فجانبوهم واشتد ذلك عليهم سألوا عنهم فأفتاهم سبحانه وتعالى فيهم وندبهم إلى مخالطتهم على وجه الإصلاح الذي لا يكون لمن يتعاطى الخمر والميسر فقال: {ويسئلونك عن اليتامى} أي في ولايتهم لهم وعملهم في أموالهم وأكلهم منها ونحو ذلك مما يعسر حصره؛ وأمره بالجواب بقوله: {قل إصلاح لهم خير} أي من تركه، ولا يخفى الإصلاح على ذي لب فجمع بهذا الكلام اليسير المضبوط بضابط العقل الذي أقامه تعالى حجة على خلقه ما لا يكاد يعد، وفي قوله: {لهم} ما يشعر بالحث على تخصيصهم بالنظر في أحوالهم ولو أدى ذلك إلى مشقة على الولي. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

إن أهل الجاهلية كانوا قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى وربما تزوجوا باليتيمة طمعًا في مالها أو يزوجها من ابن له لئلا يخرج مالها من يده، ثم إن الله تعالى أنزل قوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُون أموال اليتامى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] وأنزل في الآيات: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ في اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} [النساء: 3] وقوله: {ويستفتونك في النساء قل الله بفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللآتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليمًا} [النساء: 127] وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتى هي أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى، والمقاربة من أموالهم، والقيام بأمورهم، فعند ذلك اختلت مصالح اليتامى وساءت معيشتهم، فثقل ذلك على الناس، وبقوا متحيرين إن خالطوهم وتولوا أمر أموالهم، استعدوا للوعيد الشديد، وإن تركوا وأعرضوا عنهم، اختلت معيشة اليتامى، فتحير القوم عند ذلك.
ثم هاهنا يحتمل أنهم سألوا الرسول عن هذه الواقعة، يحتمل أن السؤال كان في قلبهم، وأنهم تمنوا أن يبين الله لهم كيفية الحال في هذا الباب، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ويروى أنه لما نزلت تلك الآيات اعتزلوا أموال اليتامى، واجتنبوا مخالطتهم في كل شيء، حتى كان يوضع لليتيم طعام فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد، وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلًا وطعامًا وشرابًا فعظم ذلك على ضعفة المسلمين، فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله مالنا منازل تسكنها الأيتام ولا كلنا يجد طعامًا وشرابًا يفردهما لليتيم، فنزلت هذه الآية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

روي أن السائل عن اليتامى عبد الله بن رواحة، وأخرج أبو داود عن ابن عباس لما نزل قول الله عز وجل: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء: 34] {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} [النساء: 10] الآيات انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكر ذلك لرسول الله فأنزل الله: {ويسألونك عن اليتامى} الآية مع أن سورة النساء نزلت بعد سورة البقرة، فلعل ذكر آية النساء وهم من الراوي وإنما أراد أنه لما نزلت الآيات المحذرة من مال اليتيم مثل آية سورة الإسراء (34) {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ففي تفسير الطبري} بسنده إلى ابن عباس: لما نزلت: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} عزلوا أموال اليتامى فذكروا ذلك لرسول الله فنزلت {وإن تخالطوهم} أو أن مراد الراوي لما سمع الناس آية سورة النساء تجنبوا النظر في اليتامى فذكروا بآية البقرة إن كان السائل عن آية البقرة غير المتجنب حين نزول آية النساء وأيًا ما كان فقد ثبت أن النظر في مصالح الأيتام من أهم مقاصد الشريعة في حفظ النظام فقد كان العرب في الجاهلية كسائر الأمم في حال البساطة يكون المال بيد كبير العائلة فقلما تجد لصغير مالًا، وكان جمهور أموالهم حاصلًا من اكتسابهم لقلة أهل الثروة فيهم، فكان جمهور العرب إما زارعًا أو غارسًا أو مغيرًا أو صائدًا، وكل هذه الأعمال تنقطع بموت مباشريها، فإذا مات كبير العائلة وترك أبناء صغارًا لم يستطيعوا أن يكتسبوا كما اكتسب آباؤهم إلا أبناء أهل الثروة، والثروة عندهم هي الأنعام والحوائط إذ لم يكن العرب أهل ذهب وفضة وإن الأنعام لا تصلح إلا بمن يرعاها فإنها عروض زائلة وإن الغروس كذلك ولم يكن في ثروة العرب ملك الأرض إذ الأرض لم تكن مفيدة إلا للعامل فيها، على أن من يتولى أمر اليتيم يستضعفه ويستحل ماله فينتفع به لنفسه، وكرم العربي وسرفه وشربه وميسره لا تغادر له مالًا وإن كثر. وتغلُّب ذلك على مِلاك شهوات أصحابه فلا يستطيعون تركه يدفعهم إلى تطلب إرضاء نهمتهم بكل وسيلة فلا جرم أن يصبح اليتيم بينهم فقيرًا مدحورًا، وزد إلى ذلك أن أهل الجاهلية قد تأصل فيهم الكبر على الضعيف وتوقير القوى فلما عدم اليتيم ناصره ومن يذب عند كان بحيث يعرض للمهانة والإضاعة ويتخذ كالعبد لوليه، من أجل ذلك كله صار وصف اليتيم عندهم ملازمًا لمعنى الخصاصة والإهمال والذل، وبه يظهر معنى امتنان الله تعالى على نبيه أن حفظه في حال اليتم مما ينال اليتامى في قوله: {ألم يجدك يتيمًا فآوى} [الضحى: 6]. فلما جاء الإسلام أمرَهم بإصلاح حال اليتامى في أموالهم وسائر أحوالهم حتى قيل إن أولياء اليتامى تركوا التصرف في أموالهم واعتزلوا اليتامى ومخالطتهم فنزلت هذه الآية. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} فيه وجوه أحدها: قال القاضي: هذا الكلام يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرهما، لكي ينشأ على علم وأدب وفضل لأن هذا الصنع أعظم تأثيرًا فيه من إصلاح حاله بالتجارة، ويدخل فيه أيضًا إصلاح ماله كي لا تأكله النفقة من جهة التجارة، ويدخل فيه أيضًا معنى قوله تعالى: {وَآتُواْ اليتامى أموالهم وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} [النساء: 2] ومعنى قوله: {خَيْرٌ} يتناول حال المتكفل، أي هذا العمل خير له من أن يكون مقصرًا في حق اليتيم، ويتناول حال اليتيم أيضًا، أي هذا العمل خير لليتيم من حيث أنه يتضمن صلاح نفسه، وصلاح ماله، فهذه الكلمة جامعة لجميع مصالح اليتيم والولي.
فإن قيل: ظاهر قوله: {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} لا يتناول إلا تدبير أنفسهم دون مالهم.
قلنا: ليس كذلك لأن ما يؤدي إلى إصلاح ماله بالتنمية والزيادة يكون إصلاحًا له، فلا يمتنع دخوله تحت الظاهر، وهذا القول أحسن الأقوال المذكورة في هذا الموضع وثانيها: قول من قال: الخبر عائد إلى الولي، يعني إصلاح أموالهم من غير عوض ولا أجرة خير للولي وأعظم أجرًا له، والثالث: أن يكون الخبر عائدًا إلى اليتيم، والمعنى أن مخالطتهم بالإصلاح خير لهم من التفرد عنهم والإعراض عن مخالطتهم، والقول الأول أولى، لأن اللفظ مطلق فتخصيصه ببعض الجهات دون البعض، ترجيح من غير مرجح وهو غير جائز، فوجب حمله على الخيرات العائدة إلى الولي، وإلى اليتيم في إصلاح النفس، وإصلاح المال، وبالجملة فالمراد من الآية أن جهات المصالح مختلفة غير مضبوطة، فينبغي أن يكون عين المتكفل لمصالح اليتيم على تحصيل الخير في الدنيا والآخرة لنفسه، واليتيم في ماله وفي نفسه، فهذه كلمة جامعة لهذه الجهات بالكلية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

و{خير} في الآية يحتمل أن يكون أفعل تفضيل إن كان خطابًا للذين حملهم الخوف من أكل أموال اليتامى على اعتزال أمورهم وترك التصرف في أموالهم بعلة الخوف من سوء التصرف فيها كما يقال:
إن السلامة من سلمى وجارتها ** أن لا تحل على حالٍ بواديها

فالمعنى إصلاح أمورهم خير من إهمالهم أي أفضل ثوابًا وأبعد عن العقاب، أي خير في حصول غرضكم المقصود من إهمالهم فإنه ينجر منه إثم الإضاعة ولا يحصل فيه ثواب السعي والنصيحة، ويحتمل أن يكون صفة مقابل الشر إن كان خطابًا لتغيير الأحوال التي كانوا عليها قبل الإسلام، فالمعنى إصلاحهم في أموالهم وأبدانهم وترك إضاعتهم في الأمرين كما تقدم خير، وهو تعريض بأن ما كانوا عليه في معاملتهم ليس بخير بل هو شر، فيكون مرادًا من الآية على هذا: التشريع والتعريض إذ التعريض يجامع المعنى الأصلي، لأنه من باب الكناية والكناية تقع مع إرادة المعنى الأصلي. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما كان ذلك قد يكون مع مجانبتهم وكانوا قد يرغبون في نكاح يتيماتهم قال: {وإن تخالطوهم} أي بنكاح أو غيره ليصير النظر في الصلاح مشتركًا بينكم وبينهم، لأن المصالح صارت كالواحدة. قال الحرالي: وهي رتبة دون الأولى، والمخالطة مفاعلة من الخلطة وهي إرسال الأشياء التي شأنها الانكفاف بعضها في بعض كأنه رفع التحاجز بين ما شأنه ذلك {فإخوانكم} جمع أخ وهو الناشئ مع أخيه من منشأ واحد على السواء بوجه ما- انتهى. أي فعليكم من مناصحتهم ما يقودكم الطبع إليه من مناصحة الإخوان ويحل لكم من الأكل من أموالهم بالمعروف وما يحل من أموال إخوانكم؛ قالت عائشة رضي الله عنها: إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي كالغدة حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي. قالوا: وإذا كان هذا في أموال اليتامى واسعًا كان في غيرهم أوسع، وهو أصل شاهد لما يفعله الرفاق في الأسفار، يخرجون النفقات بالسوية ويتباينون في قلة المطعم وكثرته- نقله الأصبهاني. اهـ.

.قال الفخر:

في تفسير الآية وجوه:
أحدها: المراد: وإن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والخدم فإخوانكم، والمعنى: أن القوم ميزوا طعامه عن طعام أنفسهم، وشرابه عن شراب أنفسهم ومسكنه عن مسكن أنفسهم، فالله تعالى أباح لهم خلط الطعامين والشرابين، والاجتماع في المسكن الواحد، كما يفعله المرء بمال ولده، فإن هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة، والمعنى وإن تخالطوهم بما لا يتضمن إفساد أموالهم فذلك جائز وثانيها: أن يكون المراد بهذه المخالطة أن ينتفعوا بأموالهم بقدر ما يكون أجره مثل ذلك العمل والقائلون بهذا القول منهم من جوز ذلك سواء كان القيم غنيًا أو فقيرًا، ومنهم من قال: إذا كان القيم غنيًا لم يأكل من ماله لأن ذلك فرض عليه وطلب الأجرة على العمل الواجب لا يجوز، واحتجوا عليه بقوله تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} وأما إن كان القيم فقيرًا فقالوا إنه يأكل بقدر الحاجة ويرده إذا أيسر، فإن لم يوسر تحلله من اليتيم، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة ولي اليتيم: إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت قرضًا بالمعروف ثم قضيت، وعن مجاهد أنه إذا كان فقيرًا وأكل بالمعروف فلا قضاء عليه.
القول الثالث: أن يكون معنى الآية إن يخلطوا أموال اليتامى بأموال أنفسهم على سبيل الشركة بشرط رعاية جهات المصلحة والغبطة للصبي.
والقول الرابع: وهو اختيار أبي مسلم: أن المراد بالخلط المصاهرة في النكاح، على نحو قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ في اليتامى فانكحوا} [النساء: 3] وقوله عز من قائل: {وَيَسْتَفْتُونَكَ في النساء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ في الكتاب في يتامى النساء} [النساء: 127] قال وهذا القول راجح على غيره من وجوه أحدها: أن هذا القول خلط لليتيم نفسه والشركة خلط لماله وثانيها: أن الشركة داخلة في قوله: {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} والخلط من جهة النكاح، وتزويج البنات منهم لم يدخل في ذلك، فحمل الكلام في هذا الخلط أقرب وثالثها: أن قوله تعالى: {فَإِخوَانُكُمْ} يدل على أن المراد بالخلط هو هذا النوع من الخلط، لأن اليتيم لو لم يكن من أولاد المسلمين لوجب أن يتحرى صلاح أمواله كما يتحراه إذا كان مسلمًا، فوجب أن تكون الإشارة بقوله: {فَإِخوَانُكُمْ} إلى نوع آخر من المخالطة.
ورابعها: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] فكان المعنى أن المخالطة المندوب إليها إنما هي في اليتامى الذين هم لكم إخوان بالإسلام فهم الذين ينبغي أن تناكحوهم لتأكيد الألفة، فإن كان اليتيم من المشركات فلا تفعلوا ذلك. اهـ.